(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم/ 6). الاسرة كيان مقدَّس، وهي وحدة البناء في تكوين المجتمع، وبحبوحة السعادة والطمأنية، ومستودع الحب والحنان والرحمة.. فاذا صلحت الاسرة، وانتظم بناؤها، وقويت الروابط والعلاقات التي تنظم كيانها، صلح المجتمع بأسره، وشعر الانسان بالامن والاستقرار. فالاسرة هي الجو الحاضن الذي ينشأ فيه الطفل، ويتعلّم فيه، ويكتسب منه العادات والاخلاق.. وتتكوّن في أجوائه شخصيته وسلوكه وأفكاره، ويتحدد وضعه النفسي والتربوي.. والاسرة تبتني على أسس قانونية وأخلاقية ونفسية، تجعل منها كياناً انسانياً منظّماً ومتماسكاً، يكون أساساً لبناء مجتمع قوي متماسك سعيد.. انّ الحياة في نظر الاسلام، قائمة على أساس الضبط والتنظيم والمسؤولية، وكل شيىء يفقد هذه العناصر يتحوّل الى فوضى وعبث وضياع، لذا نظّم الاسلام المجتمع البشري، وجعل وحدة البناء وخليته الاساسية هي الاسرة، كما انّ الخلية هي وحدة البناء في الجسم الحيواني والنباتي، ومكوّنات الذّرة، هي وحدة البناء في عالم الطبيعة والمادة، وكان حرص الاسلام شديداً على بناء الاسرة، والاهتمام بتربية أفرادها، ورعاية عناصرها. كل ذلك ليبني شخصية الانسان السوي، والمجتمع السعيد، الذي يعرف ربّه، ونمط العلاقة معه، ويحدد موقفه في هذا العالم، ليعرف كيف يعيش في مجتمعه، ويتعامل مع أبناء جنسه، تعاملاً يقوم على أساس الاخوة والمحبّة والاستقامة.. ولتحقيق هذه الغايات والاهداف، حدد الله سبحانه المسؤولية، وعهد بمهمة التربية والاصلاح الى الانبياء والرسل، وبعثهم معلّمين ومربين ومصلحين لهذه الانسانية.. ولهذا أيضاً، كلّف الآباء وثبت المسؤولية الكبرى عليهم.. مسؤولية تربية الابناء واصلاحهم، ووقايتهم من الفساد والضلال والانحراف.. والانسان بعد أن يملك القدرة على التمييز، وتستبين أمامه السبيل، ويعرف النفاع من الضار، والخير من الشر، يكون هو مسؤول عن تربية نفسه، وتقويم سلوكه، واصلاح شخصيته، والبحث عن السعادة.. والدولة الاسلامية، باعتبارها ولي الأمر الشرعي، والمسؤول عن اقامة المجتمع الاسلامي، وبناء الانسان والحضارة على أساس الاسلام، تكون هي المسؤولية أيضاً عن تربية الافراد واصالحهم وتوجيههم، بما تملك، من أجهزة، وامكانات، وسلطة، وصلاحيات، عن طريق التربية المدرسية، ووسائل الاعلام والثقافة، وسلطة القانون، وأمثال ذلك، من وسائل الاصلاح، والتأثير البنّاء في سلوك الافراد وشخصياتهم.. وهكذا تتضح أهمية التربية والاصلاح الانساني، وقاية الانسان من الضلال والانحراف والشقاء، لوقاية الاهداف والغاية الخيّرة التي خلق من أجلها الانسان.. ألا وهي عبادة الله وخير الانسان.. ان الانحراف والضلال تضييع لأهداف الحياة، وقيمة الانسان، وغاية وجوده، لذا كانت هذه المهمّة.. مهمة التربية والاصلاح والوقاية من النار والعذاب أساساً من أسس الحياة، وضرورة من ضرورات المحافضة على الغاية الاساسية من خلق الانسان.. فإلانسان لم يُخلق للعذاب والشقاء.. بل خلق للسعادة والنعيم.. ولن يحقق الانسان ذلك، إلا بمعرفة الله، وبعبادته، والسير على نهجه القويم في الحياة.. لذلك كلّف الله سبحانه الانبياء والرسل بالتربية والاصلاح، وكلّف الآباء بالتربية والاصلاح، وكلّف المجتمع الانساني بالتربية والاصلاح، وَفرض واجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.. كل ذلك ليأخذ بيد الانسان الى السعادة والنعيم، ويجنبه الشقاء والعذاب، لذا كان نداء القرآن عنيفاً، وتحريكه قوياً، وصوته عالياً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم/ 6) انه نداء ينبعث عن الرّحمة بهذا الانسان، والحرص على خيره وسعادته، وتحريك يستهدف ايقاظ الضمائر، وتحسيس النفوس، وتمزيق حجب الغفلة والانشغال.. لينظر الانسان الى نفسه وأبنائه وأهله، الذين يحوطهم بحبّه وعنايته، ويكرّس جهده وسعيه، من أجل سعادتهم وراحتهم.. لينظر الى كل أولئك، وقد أحاط بهم سرادق العذاب، والتهمتهم نار الشقاء.. وعلتهم بصمات الذّل والمهانة. فيفرغ من هول المنظر، ويستنفر كل قدراته ووسائله لاطفاء الحريق، الذي شبّ بداره، والتهم نفسه وأهله، وأحرق حبّه وآماله.. انها الكارثة والمأساة، يصوّرها القرآن في لوحة هذه الآية، ويشكل أمام الانسان صيغة المستقبل الرهيب، الذي ينتظر الانسان اللاهي عن تربية واصلاح نفسه وأهله.. ولقد كان لهذه الآية دورها وتأثيرها في النفوس المؤمنة، والعقول الواعية، التي استوعبت هذا الخطاب، واستقبلت تلك المسؤولية.. فقد نقل العلامة الراحل السيد محمد حسين الطباطبائي (رضوان الله عليه) في تفسير الميزان ما نصه: "وفي الكافي باسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام، عن أبي عبدالله (الامام جعفر الصادق(ع)) قال: لما نزلت هذه الآية: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا.." جلس رجل من المؤمنين يبكي وقال: أنا عجزت عن نفسي، وكلّفت أهلي، فقال رسول الله (ص): "وحسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك". إنّ القرآن يعرض النماذج، وصيغ الحوار والوصايا، ليوحي بهذه المسؤولية، أو يؤكدها صريحة واضحة.. اننا نشاهد هذا الاهتمام واضحاً في الخطاب الآلهي الموجّه للرسول الكريم (ص)، باعتباره زوجاً وأباً، وولياً لأمر المسلمين: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" (الأحزاب/ 59) يناديه، ويحثه على العناية بأهله، وتربية نسائه وبناته، ونساء المسلمين وبناتهم.. لقد خاطب الله نبيه (ص) بهذه الآية، وحثّه على القيام بهذا الواجب، لحماية المرأة، والحفاظ على كرامتها وسمعتها وحرمة شخصيتها.. فقد ذكر المفسرون: أن سبب نزول هذه الآية، هو أن المجتمع الجاهلي، كان مجتمعاً لا يحترم المرأة، وان البعض من الرجال الجاهلين والمنافقين، كانوا يتعرّضون للنساء، بالكلمات المثيرة، والاستفزازات غير الاخلاقية، في الشوارع والطرقات، ومراكز المارّة، فأنزل الله هذه الآية، وكلّف النبي بهذه المهمة.. وهي الدعوة الى حجاب المرأة، وستر جسدها، لئلا تكون عرضة للهتك والاهانة، وسلعة للاستمتاع واللذة، وهي دليل واضح، وتحديد لمسؤولية الآباء والازواج، ليحافظوا على حرمة نسائهم وبناتهم من السقوط، ويتحمّلوا مسؤولية تربيتهنّ على العفة والحجاب الشرعي، والرعاية الاخلاقية.. انّ المرأة التي تحفظ حجابها، وتستر جسدها، انما تعبّر بذلك عن عفة نفسها، وطهر قلبها، واحترامها لشخصيتها، وتَمَيُّزها عن المرأة التي تعرض نفسها للناظرين سلعة مبتذلة، وتطرح جسدها للعيون والشهوات الآثمة، فتكون سبباً لإثارة الآخرين عليها، وشركاً لإيقاع الناس ونفسها في المهانة والسقوط.. لقد صوّر لنا القرآن حقيقة كان يعيشها المجتمع الجاهلي، الذي استهدفت الدعوة الاسلامية استئصال جذوره، وهدم أسسه وقواعده، الفكرية، والنفسية، والاخلاقية، وهي الخلاعة، والمجون، والتعرّض للمرأة في تلك المجتمعات، ودعوة الاسلام الى العفّة، والحجاب، وصيانة حرمة شخصية المرأة المسلمة، والحفاظ على كرامتها. انّ المجتمعات البشرية، التي تعيش اليوم، نفس المرحلة الجاهلية، التي عاشها ذلك المجتمع المنقرض، وتعاني من نفس الامراض النفسية والاخلاقية، التي عانت منها كل المراحل الجاهلية الغابرة. لتفرض على المؤمنين أن يحفظوا نساءهم وبناتهم، ويتميّزوا عن تيار الحياة الجاهلية المتداعي فيأمروا نساءهم وبناتهم بالحجاب والعفّة، ويربوهن على تلك الاخلاق، وعلى ذلك السلوك الاسلامي القويم فأنهم مسؤولون عن وقايتهن، ومحاسبون على ذلك يوم يقوم الاشهاد. وفي مشهد آخر يصوّر القرآن لنا اخلاص الاب الشفيق، والمربي الحكيم، ليوحي للآباء بالاقتداء بتلك الشخصيات الحريصة على تربية الابناء، التي تعرف كيف توجّه حبّها، وتحوّله الى رعاية وتوجيه، يصلح سلوك الابناء، ويهييء لهم أجواء السعادة والنعيم.. انّ بعض الآباء.. يحب أبناءه، ولكن لا يعرف كيف يعبّر عن حبه هذا تجاههم، فيستامح معهم، عندما تصدر عنهم الاخطاء، أو يرتكبون المعاصي، أو يوفر لهم الظروف المادية، فيسيئون استعمالها، والتصرّف بها، دون أن يوجههم، أو يرشدهم، فيكون بذلك سبباً لسقوطهم وهلاكهم، فيتحوّل هذا الحبّ، الى نقمة وكراهية، وأداة للهلاك والفناء. انّ القرآن يعرض لنا صورة الاب الحكيم، والمربيّ العارف، لنقتدي به، عندما يعرض لنا وصية لقمان، ليكون الآباء لأبنائهم، كلقمان لابنه: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/ 13). ويعرض علينا أيضاً وصية ابراهيم لابنائه بقوله: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 132). وفي موضع آخر نلتقي بصورة أخرى، ولكنها من صور الحوار الصاخب والجدل العنيف بين الآباء الحريصين على هداية أبنائهم، والمصرين على نصحهم، وانتشالهم، من وهدة السقوط والانحراف.. فنقرأ لوعة الآباء، وتوجعهم من مصير أبنائهم. قال تعالى يصف مشهداً من تلك المشاهد العنيفة المحتدمة: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) (الأحقاف/ 17). لنقرأ الآية مرّة أخرى، ولنقف عند قوله تعالى: (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ). ولنفهم معنى (الاستغاثة) وورودها في هذا المورد من التصوير.. ليصوّر حال الابوين، ووضعهما النفسي، ولهفتهما، ولوعتهما، واستغاثتهما بالله، واستنجادهما به، لهداية ولدهما.. إنهما يمثلان حال الاب الشفيق على أبنائه، الحريص على هدايتهم.. والحادثة توحي لقرائها بتلك المفاهيم والمعاني، وتحث الآباء، وتدعوهم لان يعيشوا حالة الاهتمام والعناية، والحرص الى حد الاستغاثة، لا نقاذ الابناء، وفلذ الاكباد من النار والشقاء، والخسران والهلاك. وكما ثبت القرآن الدعوة الى انقاذ الاهل والابناء من العذاب والشقاء والانحراف، وعرض نماذج من عواقب السوء، وتبعات أبناء الضلال والجريمة، التي تنعكس على الآباء من أبناء السوء.. صوّر لنا: أن عدم وجود الأبناء الضالين، خير من وجودهم.. فهذا الرجل الصالح، يحل ألغازَ الموقف الغامض للنبي موسي (ع)، عندما فرغ من قتله للغلام، وراح يسأل عن السر الغامض، لعملية القتل المبهمة لديه، قال: (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا* فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) (الكهف/ 80-81). ان التصوير يوحي للآباء، بأن عدم وجود الابناء الضالين، خير من وجودهم وأنّ من يفرّط في تربية أبنائه، ويتركهم للضياع والانحراف، سيجني نتائج هذا الاهمال والتقصير، وسيتمنى، عندما تحيط به سيئة الابناء ويواجه نتائج جنايتهم، سيتمنى لو أنهم لم يولدوا، ولم يتحمل سوء السمعة، وقبيح النتائج. وهكذا يدأب القرآن على تشكيل جو عائلي، وتثبيت مسؤولية قيادية وتربوية داخل الأسرة، تتمثل بالاب والزوج، ليمارس كل واحد منهما دوره بجدّ واخلاص بالواجب والمسؤولية، تجاه أبنائه وزوجته، كما يشعر بالمسؤولية تجاه نفسه. انّ ظروف الاسرة وبيئتها، وطريقة العيش فيها، وعلاقات أفرادها بعضهم ببعض، تنعكس على وضع الافراد، النفسي، والفكري، والسلوكي.. فالطفل يكتسب، ويتعلّم العادات، والتقاليد، والافكار، وطريقة الحياة، من والديه، وأفراد اسرته، عن طريق التأثير، والمحاكاة، والاستفادة غير الواعية لديه.. فكلما كان الجوّ العائلي جواً سليماً، وصحياً، كانت شخصية الابناء سليمة التكوين، صحيحة البنية النفسية، والفكرية، والسلوكية.. ان وعي الآباء والامهات لمفاهيم التربية الاسلامية وأهميتها في الحياة، تجعلهما يمارسان مسؤوليتها بعناية ووعي بنّاء.. انّ الآباء الذين يجهلون الاسلوب التربوي الحكيم، أو لا يدركون أثر العلاقة بين الأب والأم، أو علاقتيهما بالأبناء – السيئة والحسنة – على الوضع النفسي والسلوكي للأبناء يسيئون لأبنائهم، ويجنون عليهم.. فمثلاً الأسرة التي يعيش فيها الأبوان حالة عدم الانسجام، والخلاف والجفوة.. أو الأسرة التي تنتهي فيها العلاقة بين الأبوين إلى الطلاق والفراق. انّ مثل هذه العلاقة، تسيىء للأبناء وتعرّضهم للقلق والتوتر، وربما للتشردّ والضياع، وكثيراً ما تنعكس هذه العلاقة المتوترة، وغير المستقرة، على سلوكهم، وأعماق وعيهم الباطن، وعلى علاقاتهم بالمجتمع.. فتتحوّل إلى سخط وانتقام، أو كراهية، أو جريمة، أو عقد، ترتدّ على سلامة الفرد النفسية، وعلاقته بنفسه وبمجتمعه. لذلك نجد الرسول الحكيم، والمربي العظيم محمداً (ص) يؤكد أهمية العلاقة العائلية الطيبة فيقول: "خيركم، خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" وفي موقف من مواقف الحديث النبوي عن علاقة الأخلاق الأسرية بوضع الانسان الروحي والتعبدي، وبعلاقته بالله سبحانه، نقرأ التصريح المروي عن رسول الله (ص) عند دفن سعد بن معاذ وهو أحد الصحابة. قد أصابته ضمّة القبر* فسئل عن ذلك فقال (ص): "نعم، إنه كان في خلقه مع أهله سوء". ان الجو العائلي، ومعاملة الأب – السيئة أو الحسنة – تنعكس على سلوك أبنائه، وعلاقتهم بأنفسهم، وبالوالدين، وبالآخرين.. لذلك ورد في الحديث الشريف: "لعن الله والداً حمل ولده على العقوق". "أكرموا أولادكم، وأحسنوا آدابهم". وورد عنه (ص) : "أحبوا الصبيان، وارحموهم، فاذا وعدتموهم، ففوا لهم، فانهم لا يرون، إلّا أنكم ترزقونهم". وعن الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) : "قال موسى بن عمران: يارب أيّ الاعمال أفضل عندك؟. قال: حبّ الاطفال، فاني فطرتهم على توحيدي، فان أمِتُّهم، أدخلتهم جنتي برحمتي". وورد عن رسول الله (ص) : "لأن يؤدب أحدكم ولده، خير له من أن يتصدّق بنصف صاع كل يوم". وفي مورد آخر نقرأ التصوير النبوي الكريم لعلاقة الابناء بالآباء، بأنها علاقة امتداد وبقاء، وأثر خالد وصالح.. فالأب يبقى امتداده حيّاً، وفاعلاً، ومؤثراً في الحياة، ان هو ترك ولداً صالحاً، يفعل الخير، ويخدم المجتمع بوجهة صالحة، وقلب سليم. فقد روي عن الصادق (ع) في ذلك: "ميراث الله من عبده المؤمن، ولد صالح يستغفر له". وهكذا نجد الرسالة الاسلامية قد خصت شؤون الأدب والتربية والتوجيه الاخلاقي والسلوكي بجانب واسع من الاهتمام والعناية، وخصوصاً تربية الابناء ورعايتهم. روي عبدالله بن عمر عن رسول الله (ص) قوله: (ه) "كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالامام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، ومسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيّده راع، ومسؤول عن رعيته، قال فسمعت هؤلاء من رسول الله، وأحسب النبي (ص) قال: والرجل في ما أبيه راع، وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته". والمتأمل في هذا الحديث النبوي الشريف، الذي ثبت أسس الرعاية والمسؤولية السياسية والمالية والاجتماعي والاسرية بنصّه: "والرجل في أهله راع، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها". يكتشف مسؤولية الأبوين، ومهمتهما في تربية الأهل والابناء والحرص عليهم. واذا كان الاهل والابناء أمانة بأيدينا، ونحن مسؤولون عنهم، فلنردَّ الامانة، ولنرع حقها. ان تعلم الأبناء، وتربيتهم حقّ علينا.. والعلم والادب هما خير ميراث، وأفضل ثروة نتركها لهم. ان الأدب والزوج بحاجة الى وضع خطة عمل ومنهج، لتربية أسرته، واصلاح ابنائه وأهله، واتقاذهم من الشقاء والعذاب، والانحراف والجريمة. وصايا وارشادات عمليّة انّ الوصايا في هذا الشأن كثيرة، وخطوات الاصلاح والبناء متعددة، ولكننا ندوّن في بحثنا هذا، الجانب المهم منها ونركّز، بما يأتي من الارشادات والنصائح التي نرجو أن يوفقنا الله جميعاً للعمل بها، والاهتداء بهدي القرآن، والاستضاءة بنور السّنّة النبوية المطهّرة، وانتهاج سبيل الرسول الكريم (ص) وأهل بيته الاطهار. - اختر لنفسك الزوجة الصالحة.. المعروفة باستقامة الخلق، وشرف الاسرة والالتزام بمنهج الاسلام الحنيف. - اختاري لنفسك الزوج الصالح. المعروف باستقامة الخلق، وشرف الاسرة، والالتزام بمنهج الاسلام الحنيف. فان بناء الاسرة، لا يكون بناء سليماً، وجوّها لا يكون جوّاً سعيداً، إلّا في ظل الخلق والايمان. - على الزوجين أن يسعيا لا يجاد الجوّ العائلي السعيد، الذي يساعد الابناء على تكوين شخصية انسانية مستقيمة، تمكنهم من العيش في المجتمع الاسلامي كعناصر صالحة، وشخصيات اسلامية ملتزمة. - من الضروري للأبوين أن يجعلا لهما منهج عمل تربوي يسيران عليه، ولا يتركان أبناءهما للعفوية وعدم الاهتمام، فان الطفل يتلقى في تلك المرحلة عن أبويه، ويعتبرهما قدوة له، كما يلتقي من معلمه، ومن البيئة التي يعيش فيها، فتتكون شخصيته شيئاً فشيئاً، حتي تأخذ صيغتها النهائية.. ويمرّ الابناء – كما هو واضح – في الجو العائلي بمرحلتين، يحتاجون فيها إلى الرعاية والعناية، وهاتين المرحلتين هما: مرحلة الطفولة. مرحلة المراهقة. وواضح انّ مرحلة المراهقة، لأشدّ خطراً في حياة الانسان، وتحتاج الى حكمة في التربية والتوجية، وعناية من الأبوين فائقة. ومن المفيد هنا أن ندوّن بعض الارشادات العملية لتعليم الابناء، وارشادهم في كل من مرحلتين. - انّ أولى الوصايا والارشادات العملية هي أن يحرص الابوان على تكوين علاقة طيبة بينهما.. فان عدم الانسجام والخلاف، أو التصرّفات غير السليمة بين الابوين في البيت، تنعكس على سلوك الاطفال والابناء، فالأب الذي لا يحترم الأم، أو الأم التي لا تحترم الأب، أو المشاجرة المستمرة، أو حالة السخط وعدم الرضى، أو جوّ الكآبة والكراهية.. ان كل ذلك ينعكس سلبياً على الابناء، ويؤثر تأثيراً مخرّباً في سلوكهم وأخلاقهم وحالاتهم النفسية.. كما أن علاقة الأبوين بالابناء، وأسلوب التعامل معهم، يترك أثره الحسن، أو السيىء في نفوسهم، وعلاقتهم المستقبلية بالأبوين، وعلاقتهم بالمجتمع. - فالطفل الذي لا يشعر بالحبّ والحنان والرعاية من أبويه، قد ينشأ طفلاً غير سوي، عدواني السلوك والنزعة، وربما ساقه ذلك التعامل الى التشرّد والراهية، أو أصيب بعقدة نفسية سلبية. - وسوء المعاملة مع الطفل المراهق، وعدم احترام شخصيته، قد يقوده الى الاساءة إلى والديه، والى الآخرين، وتكوين عقدة النقص عنده. والتضييق عليه في التعامل، وحرمانه المادي، قد يجرّه إلى الكذب، أو السّرقة والاحتيال.. وانّ التفريق في التعامل بين الأبناء وعدم اشعارهم بالحبّ والعناية المتكافئة، كثيراً ما يدفعهم الى الكراهية فيما بينهم، والى النفور من الأبوين، وضعف الرابطة بهما، والى التوغّل في عقوقهما. - وان الانطواء والعزلة في جو العائلة عن الأهل والجيران والمجتمع، يتركان أثرهما السلبي في حياة الابناء.. أما اذا وجد الأبناء آباءهم يعيشون علاقات طيّبة مع الارحام والارقاب والجيران والاصدقاء.. كالزيارات، وتبادل الهدايا، والضيافة، والاهتمام بحوائجهم، فانهم يتلقون هذه الاخلاق والعادات الحسنة، ويتأثرون بها. - من الضروري أن يرسم الأبوان منهاجاً ثقافياً تربوياً لأبنائهم، منذ الصغر والطفولة: يلقنونهم الآيات والعبارات الاسلامية، كالشهادتين، وبعض أقوال الرسول الكريم (ص)، والتعريف بحياة الرسول (ص) وسيرته وأهل بيته، على شكل قصص وموضوعات مختصرة. - تعليم الصبيان الصلاة، وتلاوة القرآن، واصطحابهم الى المساجد وتعريفهم بالمناسبات الاسلامية، وتفهيمهم مداليلها، كليلة القدر، والبعضة النبوية، ومعركة بدر، والحج.. الخ. - تربيتهم على ذكر الله، والتعلّق به.. كالتسيمة عند البدء بالطعام والشراب، والحمد لله عند الانتهاء منهما، والاستعانة به عند حصول الشدائد، والشكر له عند قضاء الحوائج وحصول الخير.. الخ. - تربية الطفل، وتدريبه على مفهوم الاعتذار والتوبة، اذا أخطأ وأساء، فيطلب منه أن يقول: "أعتذرُ، أو عَفواً، أو أستغفرُ الله.. الخ".. مع توجيهه، وارشاده، ومعاقبته اذا كان الموقف يستدعي العقوبة، دون أن يبالغ في العقوبة. - تعليمهم النظافة، والعناية بحسن المظهر. - تعليمهم آداب التحية والحديث والمجلس، واحترام الآخرين. - ابعادهم عن أصدقاء السوء، وتوجيههم لاختيار الاصدقاء الصالحين الذين يستفاد منهم. - توجيههم لاستثمار أوقات الفراغ، والمساهمة في الأعمال العامة، التي تضمّ أقرانهم.. كالالعاب الرياضية، والتدريب على الخط والرسم والنجارة... الخ. - تحبيب العلم لهم، وتوسيع أفق تفكيرهم في المستقبل، وتوجيههم توجيهاً صحيحاً في هذا المجال. مراقبة سلوكهم، واسداء النصائح لهم، عندما تظهر عليهم بعض الآثار غير السليمة. - محاولة نقل التجارب الاجتماعية النافعة لهم، من خلال الحديث العائلي، وسرد الحكم والقصص التاريخية وتجنيبهم الوقوع بالاخطاء والاخطار. - تعريفهم مفهوم الحلال والحرام، وتدريبهم على الالتزام به. - التوسعة على الأهل والعيال، وسدّ حوائجهم المادية، فأنه أفضل الصدقة، وفي بعض الروايات أنه صدقة. فمن أراد أن يحسن، فاهله أحق ببرّة واحسانه، كما ورد في الاحاديث الشريفة.. انّ عناية الرجل بزوجته، وأبنائه، وأفراد أسرته، واجب ومسؤولية شرعية، يصون بأدائها نفسه، وأهله، من الشر والعذاب، ويحقق لهم الهدى والصلاح.
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة/ 105).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق